سورة البينة - تفسير تفسير ابن جزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البينة)


        


{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)}
سورة لم يكن
ذكر الله الكفار ثم قسمهم إلى صنفين: أهل الكتاب والمشركين، وذكر أن جميعهم لم يكونوا منفكين حتى تأتيهم البينة، وتقوم عليهم الحجة ببعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى منفكين: منفصلين، ثم اختلف في هذا الانفصال على أربعة أقوال: أحدها أن المعنى لم يكونوا منفصلين عن كفرهم حتى تأتيهم لتقوم عليهم الحجة. الثاني لم يكونوا منفصلين عن معرفة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله. الثالث: اختاره ابن عطية وهو: لم يكونوا منفصلين عن نظر الله وقدرته، حتى يبعث الله إليهم رسولاً يقيم عليهم الحجة، الرابع: وهو الأظهر عندي أن المعنى لم يكونوا لينفصلوا من الدنيا حتى بعث الله لهم سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم فقامت عليهم الحجة، لأنهم لو انفصلت الدنيا دون بعثه: {لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} [طه: 134] فلما بعث الله لم يبق لهم عذر ولا حجة، فمنفكين على هذا كقولك: لا تبرح أو لا تزول حتى يكون كذا وكذا {رَسُولٌ مِّنَ الله} يعني سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم، وإعرابه بدل من البينة أو خبر ابتداء مضمر {يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} يعني القرآن في صحفه {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي قيمة بالحق مستقيمة بالمعاني، ووزن قيّمة فيعلة وفيه مبالغة قال ابن عطية: هذا على حذف مضاف تقديره: فيها أحكام كتب ولا يحتاج هذا إلى الحذف لأن الكتب بمعنى المكتوبات.


{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)}
{وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة} أي ما اختلفوا في نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما علموا أنه حق، ويحتمل أن يريد تفرقهم في دينهم كقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ} [فصلت: 45] وإنما خص الذين أوتوا الكتاب بالذكر هنا بعد ذكرهم مع غيرهم في أول السورة؛ لأنهم كانوا يعلمون صحة نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بما يجدون في كتبهم من ذكره {وَمَآ أمروا} الآية: هنا معناها: ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بعبادة الله، ولكنهم حرّفوا أو بدّلوا، ويحتمل أن يكون المعنى ما أمروا في القرآن إلا بعبادة الله، فلأيّ شيء ينكرونه ويكفرون به {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} استدل المالكية بهذا على وجوب النية في الوضوء، وهو بعيد لأن الإخلاص هنا يراد به التوحيد وترك الشرك أو ترك الرياء، وذلك أن الإخلاص مطلوب في التوحيد وفي الأعمال، وهذا الإخلاص في التوحيد من الشرك الجلّي، وهذا الإخلاص في الأعمال من الشرك الخفيّ، وهو الرياء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرياء الشرك الأصغر» وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه إنه تعالى يقول: «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشريكه».
واعلم أن الأعمال ثلاثة أنواع: مأمورات ومنهيات ومباحات، فأما المأمورات فالإخلاص فيها عبارة عن خلوص النية لوجه الله، بحيث لا يشوبها بنية أخرى، فإن كانت كذلك فالعمل خالص مقبول، وإن كانت النية لغير وجه الله، من طلب منفعة دنيوية، أو مدح أو غير ذلك فالعمل رياء محض مردود، وإن كانت النية مشتركة ففي ذلك تفصيل فيه نظر واحتمال. وأما المنهيات فإن تركها دون نية خرج عن عهدتها، ولم يكن له أجر في تركها وإن تركها بنية وجه الله حصل له الخروج عن عهدتها مع الأجر، وأما المباحات كالأكل والنوم والجماع وشبه ذلك فإن فعلها بغير نية لم يكن فيها أجر، وإن فعلها بنية وجه الله فله فيها أجر، فإن كل مباح يمكن أن يصير قُربَه إذا قصه به وجه الله مثل أن يقصد بالأكل القوة على العبادة ويقصد بالجماع التعفف عن الحرام {حُنَفَآءَ} جمع حنيف وقد ذكر {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} تقديره: الملة القيمة، أو الجماعة القيمة وقد فسرنا القيمة ومعناها أن الذي أمروا به من عبادة الله والإخلاص له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة هو دين الإسلام فلأيّ شيء لا يدخلون فيه؟ {البرية} الخلق لأن الله برأهم وأوجدهم بعد العدم. وقرأ بالهمز وهو الأصل بالياء وهو تخفيف من المهموز، وهو أكثر استعمالاً عند العرب.


{جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}
{رِّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} اختلف هل هذا في الدنيا أو في الآخرة؟ فرضاهم عن الله في الدنيا وهو الرضا بقضائه والرضا بدينه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً»، ورضاهم عنه في الآخرة: هو رضاهم بما أعطاهم الله فيها، أو رضا الله عنهم لما ورد في الحديث أن الله يقول: «يا أهل الجنة هل تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: يا ربنا وأي شيء نريد وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين. فيقول: عندي أفضل من ذلك وهو رضواني فلا أسخط عليكم أبداً» {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي لمن خافه وهذا دليل على فضل الخوف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الله رأس كل حكمة.